فوائد أدعية الاستفتاح في الصلاة

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ،
وبعد :
فقد تعددت صيغ ادعية الاستفتاح للصلاة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ،
ولا شك بأن هذا التعدد له مميزاته ، وفيه أسراره الإيمانية ، وإكمالا لمشروع "
الفوائد التربوية من الأحاديث النبوية "
الذي يسر الله لي البداءة فيه ، أحببت أن أذكر بعض الفوائد التربوية وغيرها من أدعية الاستفتاح ،
طالبا من ربي المدد والإعانة والفتح ، وألا يحرمني بذنوبي :
الدعاء الأول :
" اللهم بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كما بَاعَدْتَ بين الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
اللهم نَقِّنِي من الْخَطَايَا كما يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ من الدَّنَسِ
اللهم اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ "
وفيه من الفوائد التربوية وغيرها ما يلي :
الفائدة الأولى :
مناسبة دعاء الاستفتاح في اول الصلاة وقبل القراءة ظاهرة جدا ،
بل إنه لا يحسن به إلا هذا الموضع ، فهو كالمقدمة بين يدي الملوك ،
لأن الفاتحة مناجاة ومخاطبة بين العبد وربه ،
وأي مناجاة ومحادثة من الأليق أن يتقدمها جمل ليست بالطويلة المملة
فيضيع معها مقصود المناجاة ، وليست بالقصيرة التي لا تغني ،
فكان موقعه أنسب المواقع ، والحاجة له داعية .
الفائدة الثانية :
من تأمل ألفاظ الحديث وجد أن النبي صلى الله عليه وسلم يطلب ربه المباعدة بينه وبين ذنوبه ،
وأن ينقيه من الخطايا ، وأن يغسله بالماء والثلج والبرد ، وبهذا رفع الله رسله وأنبياءه ،
حيث أنهم يجتهدون في الأعمال لمعرفتهم بعظمة من يعبدونه ، فأمتهم أحرى بذلك1.
الفائدة الثالثة:
فيه الاعتراف بالذنوب والخطايا ، فمن تأمل الحديث وجد تكرار "خطاياي" ثلاث مرات ،
وهذا له أثره على طرد العجب ، ومعرفة قدر النفس ، وشدة الارتباط بالله ،
وذلك أكثر مناسبة للوقوف بين يدي الله والتقديم بين مناجاته ،
حيث يعترف العبد بذنوبه وخطاياه ويطلب من ربه أن يباعد بينه وبينها بحيث لا تحول بينه وبين ربه .
الفائدة الرابعة:
في الحديث ثلاث مراتب للمؤمن مع خطاياه ، وكلها لها اعتبارات مختلفة، وهي :
المرتبة الأولى : " باعد بيني وبين خطاياي " وهي مرتبة المباعدة ،
وهذه الحالة تصدق على المؤمن قبل مواقعة الذنب ،
فإنه يسأل ربه أن يباعد بينه وبين خطاياه أمدا بعيدا ، فإن هذا أدعى للسلامة من الوقوع فيها .
المرتبة الثانية : " اللهم نقني من خطاياي " وهي مرتبة التنقية ،
والمراد والله أعلم محو الذنوب وإزالتها ، وهذه المرتبة تتناول الذنوب التي واقعها ،
فيطلب من ربه أن يمحوها ويزيلها عنه ويغفرها له .
المرتبة الثالثة : " اللهم اغسلني من خطاياي " وهي مرتبة الغسل ،
والمراد والله أعلم إزالة أثر الذنب بعد فعله ، وتصدق هذه الجملة على من تلبس بالذنب وواقعه ،
ثم تاب لربه فإنه يسأل ربه أن يزيل أثر الذنب عنه ، فإن للذنوب أثرا غير كتابتها ،
فكم من نظرة أورثت ندامة وأزالت علما ، مع أنها قد تغفر لصاحبها ،
وذلك والله أعلم حتى لا يستوي من وقع بالذنب مع من لم يقع فيه .
فشملت هذه الجمل الثلاث " باعد – نقني – اغسلني " مراتب المؤمن أمام الذنوب ،
والله أعلم بأسراره شرعه .
الفائدة الخامسة :
وهناك رأي آخر في المراتب الثلاث قاله الكرماني رحمه الله :
" يحتمل أن يكون في الدعوات الثلاث إشارة إلى الأزمنة الثلاثة ، فالمباعدة للمستقبل ،
والتنقية للحال ، والغسل للماضي "2 .
الفائدة السادسة :
في قوله
" اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب "
المراد بها الذنوب التي لم يمارسها ، وعلى هذا يأتي سؤال : لماذا طلب المباعدة دون غيرها ؟
والذي يظهر والله أعلم لأن الله كتب على ابن آدم حظه من الذنوب مدرك ذلك لا محالة ،
فلا نجاة للعبد منها أبدا ، فاقتصر في الدعاء على المباعدة وهي تدل على التأخير ،
وهذا أنسب لأنه أبطأ أثرا .
الفائدة السابعة :
في تكرار لفظ " بين " في قوله : " بيني وبين خطاياي "
دليل على شدة طلب العبد ربة أن يباعد بينه وبين ذنوبه أبعد مما بين المشرق والمغرب ،
ولهذا لم يتكرر لفظ " بين " في قوله "بين المشرق والمغرب " وهذا الشعور في شدة الطلب
بالمباعدة له أثره على معرفة العبد لأثر الذنوب والوقوع فيها .
الفائدة الثامنة :
في قوله " باعد بيني وبين خطاياي " دليل على أن الدنو من المعاصي والقرب من الذنوب
وأماكنها أحد الأسباب التي تجعل العبد يقع فيها ، فمن هنا طلب العبد من ربه
أن يباعد بينه وبين الخطايا حتى لا يجد سبيل يوصله إليها .
الفائدة التاسعة :
قوله : " باعد بيني وبين خطاياي" المباعدة تشمل :
أ ـ طلب مباعدة الأثر : والمراد المباعدة من تأثيراتها وعقوباتها الدنيوية والأخروية3 ،
فإن للذنوب أثرا في الدنيا والآخرة ،
فيطلب المؤمن من ربه أن يباعد بينه وبين أثارها الدنيوية والأخروية .
ب ـ وتشمل المباعدة المكانية : فيسأل ربه أن يباعد بينه وبين ذنوبه من حيث المكان ،
فلا يكون قريبا من مواقع المعاصي ومواطنها لأن ذلك يسهل الوقوع فيها .
ج ـ المباعدة الزمانية : فيسأل ربه أن يباعد بينه وبين زمن الوقوع في الخطايا ،
فإن المؤمن يكون في عافية حتى يقع في شيء من الذنوب ، وهذا كالنتيجة للمباعدة الأولى .
الفائدة العاشرة :
المؤمن هو الحريص على إبعاد نفسه عن الذنوب ، فلذلك بدأ في طلب المباعدة بنفسه
فقال : " باعد بيني " فبدأ بنفسه إشعارا منه لربه بأنه هو الحريص على الهروب من الذنوب ،
وهذا في مقام الاستفتاح مناسب جدا ، فإن العبد بين يدي ربه يريد أن يظهر لربه
وهو – وهو سبحانه أعلم به – أنه حريص كل الحرص على أن يقف بين يدي ربه
هاربا بنفسه من الذنوب ومواقعها ،
وهذا أنسب من لو قال : باعد بين خطاياي وبيني . ( يتبع )
1- شرح البخاري لابن بطال 3/110
2- فتح الباري 2/230